العائلة أولاً
لطالما اضطلعت سُلالات لبنانية بأدوار رائدة في الحياة السياسية منذ استقلال البلاد، ومنها على سبيل المثال لا الحصر عائلات الجميّل وجنبلاط وإرسلان وشمعون وكرامي وفرنجية وسلام. ثم برزت عائلات أخرى لاحقاً خلال الحرب الأهلية أو بعدها مباشرة، وقد دأبت هي أيضاً على توارث المناصب من جيل إلى آخر، ولا سيّما عائلتا عون والحريري.
ومع أنّ الانهيار الاقتصادي في البلاد خلّف آثاراً عكسية على نفوذ طبقة "الأثرياء الكبار" في المشهد الاجتماعي اللبناني، إلا أنه دفع أيضاً باتّجاه الاعتماد، بشكل أكثر ثباتاً، على أفراد العائلات الذين راكموا الثروات والاستثمارات الأجنبية في العقود القليلة الماضية.
وفقاً لدراسة صادرة في العام 2012، "تُشكّل الشركات العائلية في لبنان 85% من القطاع الخاص وتوفر 1.05 مليون فرصة عمل من أصل 1.24 في لبنان". وفي بيئة غير مستقرّة إجمالًا، يشوبها العنف تاريخياً، تلعب الشركات العائلية "دوراً هاماً في تحقيق الاستقرار على مستوى توليد القيمة الاجتماعية والاقتصادية ومسارات توارث الثروات عبر الأجيال". في الواقع، عندما سُئل روّاد الأعمال اللبنانيون عن الأسباب الأساسية للانخراط في مجال الأعمال، كانت الإجابة الأكثر شيوعاً "توفير الأمن وتوليد الدخل الضروري لاستحداث حياة عائلية متينة وصونها".
وفقاً لتقرير صدر عام 2014، يبلغ متوسط عمر الشركة العائلية في لبنان 40 عاماً تقريباً، بالمقارنة مع المعدّل العالمي البالغ 28%. فضلاً عن ذلك، تشهد 28% من هذه الشركات نمواً. في الواقع، وفقاً للدراسة نفسها، تتمتع ثلثا الشركات العائلية في البلاد تقريباً بإمكانيات تخولّها التوسّع. مع ذلك، تسبب واقع الانهيار المالي بعد العام 2019، من دون شك، بزيادة تعقيد هذه الأرقام كلها.
بصرف النظر عن هذه التحديثات، ليس قطاع الإعلام استثناءً على هذا الواقع المتعلق بالملكية العائلية. إذ أن 38% من وسائل الإعلام المشمولة في الدراسة تضمّ على الأقل عضواً واحداً من العائلات الـ12 التالية في هيكلية ملكيتها أو في مجالس إدارتها، أو في الاثنين معاً: تويني، والحريري، وعون، وميقاتي، وفارس، والمرّ، وسلام، وخياط، والضاهر-سعد، والخازن، وإده، وفرعون. ونلحظ أن أكثر من وسيلة على ثلاث مملوكة مباشرة من إحدى هذه الأُسر.
في قطاع المطبوعات، نجد صحيفة النهار (عائلة تويني)، وصحيفة لوريان لو جو (عائلتا إده وفرعون)، وصحيفة اللواء (عائلة سلام)، وصحيفة "المستقب (عائلة الحريري- توقفت عن العم)، وصحيفة الجمهورية (عائلة المرّ). وفي قطاع التلفزيون، ينطبق ذلك على محطة MTV (عائلة المرّ)، وتلفزيون الجديد (عائلة خياط)، وتلفزيون المستقبل (عائلة الحريري)، وعلى LBCI (عائلة الضاهر-سعد) إلى حدّ ما. وينطبق التوجّه نفسه على قطاع الإذاعات في حالة صوت لبنان 93.3 (عائلة الخازن)، وإذاعة الشرق (عائلة الحريري).
السلالات الإعلامية في لبنان
يمكن تقسيم العائلات اللبنانية في قطاع الإعلام إلى فئات ثلاث:
1- عائلات نشطت في قطاع الإعلام منذ عقود وانخرطت في الحياة السياسية بعد بناء اسم قوي لها في الإعلام أولًا. وفي حالة عائلة تويني، التي تمثلت في البرلمان من خلال مؤسس صحيفة "النهار" جبران تويني الجدّ، ثم غسان، وجبران الابن، ونايلة، والتي تمثلت في السلطة التنفيذية أيضاً بغسان تويني. وينسحب الأمر نفسه إلى حدّ ما على صلاح سلام لذي ترشّح للانتخابات النيابية للمرة الأولى في سنة 2018، بعد ممارسة مهنة الصحافة لعقود.
2- عائلات أخرى بدأت مسيرتها العامة في الحياة السياسية ثم استثمرت لاحقاً في قطاع الإعلام كسبيل لكسب مزيد من النفوذ ومن الدعم الشعبي. وهذا ما ينطبق على عائلات الحريري وعون وميقاتي وفارس والمرّ.
3- عائلات انخرطت في المسارين بصورة متوازية، وكان دورها السياسي مدعوماً دوماً بحضورها في قطاع الإعلام كما هو الحال بالنسبة إلى عائلتي إده وفرعون.
الروابط العائلية مرآة للتحالفات السياسية
تصف الباحثة سعاد جوزف النظام السياسي اللبناني كنظام قائم على "نظام سياسي عائليّ". وتعرف هذا النظام على أنه "نشر المؤسسات والأيديولوجيات، (...) والممارسات والعلاقات العائلية بالمواطنين للترويج لمطالبها المتصلة بالدولة وبالأطراف الحكومية من أجل حشد المسوّغات العملانية والأخلاقية للحوكمة بناء على أسطورة القرابة المدنية والخطاب العام الذي يمنح الامتياز للعائلة".
تـوصّلت جوزيف إلى استنتاج مهمّ عن طبيعة الاقتصاد، يتمحور بدوره حول ديناميات الروابط العائلية والثروات المتوارثة. فقال: "يعتمد الاقتصاد أيضاً على هيكل العائلة ودينامياتها. فما زالت معظم المشاريع التجارية عبارة عن متاجر صغيرة، مملوكة ومشغلة من قبل العائلات. ولا يخفى على أحد أنّ العائلات تعمل غالباً معاً أو لحساب بعضها البعض. كما يساعد أفرادها بعضهم على إيجاد الوظائف، وعقد الصفقات التجارية، واكتساب معارف عمل. مثلاً، في إحدى العائلات التي تتبّعتها في برج حمود منذ 1971، وظّف الأخ الأكبر اثنين من أشقائه الصغار (الأخ الثاني والثالث)، فضلاً عن ابنة وابن شقيقته في مراحل مختلفة من حياتهم العملية."
عائلة تويني
تُشكّل عائلة تويني حالة دراسية مثيرة للاهتمام: إذ تزوج غسان تويني من نادية حمادة شقيقة وزير التربية الحالي النائب مروان حمادة، الحليف المقرّب من النائب وليد جنبلاط، رئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي". كما أن الوزير حمادة هو أحد المساهمين في صحيفة "النهار"، وشقيقه علي حمادة كاتب صحفي في الجريدة. كما أن علي حمادة هو عضو في المكتب السياسي لتيار "المستقبل" برئاسة سعد الحريري، الذي تمتلك عائلته حالياً الحصة الأكبر من أسهم صحيفة "النهار".
تزوّج ابن غسان ونادية، جبران تويني، أولًا من ميرنا، ابنة النائب في البرلمان ونائب رئيس الوزراء الأسبق ميشال الياس المرّ. وهي شقيقة نائب رئيس الوزراء الأسبق الياس المرّ. وتمتلك عائلة ميشال الياس المرّ صحيفة "الجمهورية". وقد رُزق جبران تويني وميرنا المرّ بابنتين، نايلة التي كانت نائبة في البرلمان بين 2009 و2018 وتشغل حالياً منصب رئيسة مجلس إدارة ورئيسة التحرير في صحيفة "النهار"، وميشيل التي لم تنجح في الانتخابات النيابية لسنة 2018 وتعمل اليوم كصحافية في "النهار" بعد أن نشرت مقالاتها وأعمدتها الأولى في صحيفة ""الجمهورية.
عائلة المرّ
نصل إلى عائلة المرّ. إضافة إلى ارتباط ميرنا المرّ بعائلة تويني، كان نائب رئيس الوزراء السابق الياس المرّ متزوجاً في البداية من كارين لحود، ابنة رئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود (1998-2007). وعكَس ذلك تحالفاً متيناً جداً بين عائلة المرّ والرئيس لحود. وخلال عهد الرئيس لحود، شغل ميشال الياس المرّ بداية منصب نائب رئيس الحكومة ووزير الداخلية (1998-2000)، ثم أصبح الياس المرّ الابن وزيراً للداخلية (2000-2004)، ثم نائب رئيس الحكومة ووزير الدفاع (2005-2008). إلا أن محاولة اغتيال الياس المرّ شكّلت بداية التوتر السياسي مع الرئيس إميل لحود وقتها قبل أن تؤدي إلى نهاية التحالف السياسي والطلاق اللاحق بين الياس المرّ وكارين لحود.
كذلك نشأ انشقاق آخر داخل عائلة المرّ بين الشقيقين ميشال الياس المرّ وغبريال المرّ بعد سنوات من الشراكة. وكان الانقسام سياسياً بشكل أساسي نظراً إلى أن الأول كان رمزاً أساسياً في الحكومات اللبنانية الموالية للنظام السوري المتعاقبة خلال تسعينات القرن الماضي، في حين أن الأخير كان قد شرّع تدريجياً موجات محطته التلفزيونية MTV وإذاعته، إذاعة "جبل لبنان"، أمام الرموز المعارضة لسوريا. وبلغ الانقسام ذروته في آب/أغسطس من العام 2002 عندما فاز غبريال المرّ بفارق بسيط في انتخابات المتن الفرعية في مواجهة ابنة أخيه، ميرنا المرّ (الزوجة السابقة لجبران تويني ووالدة نايلة تويني). وقتذاك، حاول جبران تويني دون جدوى تقديم نفسه كمرشح توافقي لتفادي المعركة بين زوجته السابقة من جهة وبين غبريال المرّ من جهة أخرى والذي كان مرتبطًا معه بتحالف سياسي. أدارت وزارة الداخلية الانتخابات الفرعية التي كان على رأسها في تلك الفترة الوزير الياس المرّ، شقيق ميرنا وابن أخ غبريال. وجرى إلغاء فوز غبريال في وقت لاحق بقرار من المجلس الدستوري، بحجة أنه انتهك المادة 68 من القانون الانتخابي المعتمد آنذاك، من خلال توظيف محطته التلفزيونية لصالح حملته الانتخابية. وبالتوازي، أمرت محكمة المطبوعات بالإغلاق الكامل لمحطة MTVوإذاعة "جبل لبنان"، لتُسكت بذلك الوسيلتين الإعلاميتين الوحيدتين اللتين تمثّلان آراء المعارضة.
مع ذلك، لم يُصادق المجلس الدستوري على فوز ميرنا لأنها لم تستقل من منصبها كرئيسة بلدية. بدلًا من ذلك، جرى الإعلان عن فوز غسان مخيبر الذي كان قد حصد وقتها أقل من 2% من الأصوات. ومن ثم تمت إعادة انتخاب السيد مخيبر في دورتي العام 2005 و2009 وهو النائب الذي تقدّم باقتراح قانون الإعلام الجديد والذي، في حال اعتماده، سيفرض مجموعة من شروط الشفافية الضرورية جداً على ملكية وسائل الإعلام.
ترشح ميشال الياس المر الابن على الانتخابات النيابية عام 2022 في منطقة المتن ونجح.
توجد علاقات أقلّ تعقيداً بين عائلة ميشال إده، أحد المساهمين الأساسيين في صحيفة "لوريان لو جور" وبين عائلة النائب الراحل بيار حلو. إذ أن ابنة السيد إده متزوجة من فيليب بيار حلو، شقيق النائب هنري حلو عضو التكتل النيابي للحزب "التقدمي الاشتراكي" برئاسة النائب تيمور جنبلاط، نجل زعيم الحزب وليد جنبلاط. أما العائلة الثانية بين المساهمين في صحيفة "لوريان لو جور" فهي عائلة فرعون: وزير الدولة لشؤون التخطيط السابق ميشال فرعون وشقيقته نايلة، المتزوجة من جان دو فريج، شقيق النائب السابق نبيل دو فريج، عضو تيار "المستقبل" الذي يرأسه سعد الحريري.
كان ميشال حلو المدير التنفيذي للجريدة حتى عام 2021، عندما استقال للترشح على المجلس النيابي، والالتزام بدوره كأمين عام حزب الكتلة الوطنية.
المصادر
Haines-Young, J. (2018). The future of Lebanon's political dynasties. The National. Accessed on 29 November 2018.
Houssari, N. (2018). Lebanon’s political power clans pass their assembly seats to the next generation. Arab News. Accessed on 29 November 2018.
Fahed-Sreih, J. & Pistrui, D. (2012). Motives for Entrepreneurship: The Case of Lebanese Family Businesses. InTech Open.
Joseph, S. (2011). Political Familism in Lebanon. The Annals of the American Academy of Political and Social Science.
Adams, P. (2002). Bitter Family Feud Intertwined in Web of Lebanese Politics. Accessed on 29 November 2018.
Tamayyaz. Family Owned Enterprises (FOEs) – the Backbone of Lebanon’s National Economy. Accessed on 29 November 2018.