الإطار السياسي
الناتج
بسبب سمعة التحرّر المتجذّرة التي لطالما أُلصقت بلبنان، يفترض البعض أنّ وسائل الإعلام اللبنانية تتمتّع بحرية أكبر من وسائل الإعلام في أي بلد عربي آخر. المفتاح إلى السياسة: الطائفية
يُصنَّف النظام السياسي في لبنان على أنه نظام ديمقراطي وبرلماني، في حين أنه في الواقع نظام هجين. فغالباً ما يتمّ التعلّل بضرورة احترام "التوازن الطائفي" للخروج عن مسار المبادئ والممارسات الديمقراطية العامة. وكان النظام التوافقي في لبنان (راجع Metadata) قد اعتُمد بموجب الميثاق الوطني عام 1943، وهو اتفاق غير مكتوب قسّم السلطات السياسية والمناصب التنفيذية بين المسيحيين والمسلمين، مع إسناد أعلى المناصب إلى "الترويكا" المؤلّفة من رئيس مسيحي ماروني، ورئيس مجلس نواب مسلم شيعي، ورئيس وزراء مسلم سنّي.
كان من المفترض أن يخفّف هذا "التفاهم" الشفهي من التوتّرات بين الأقلّيات المتعايشة سويةً، ويحافظ على الاستقرار الهشّ في البلاد. لكنه ما لبث أن تطوّر إلى توزيع للسلطات بين العشائر والسلالات، بدءاً من الزعماء الإقطاعيين أصحاب النفوذ وأسياد الحرب القدامى ووصولاً إلى ورثة العائلات القوية. لكنّ المفارقة هي أنّ هذا النمط من التعايش كان وما زال الدواء والداء الأساسيَّين للنزاع. فاتفاق الطائف المُبرم عام 1989 الذي كان يُفترض به وضع حدّ لحرب أهلية دامت خمس عشرة سنة (1975- 1990) قام بمنهجة هذا التعايش، مكرّساً الطائفية كعنصر أساسي في السياسة اللبنانية. وما المشهد الإعلامي إلّا انعكاس بسيط لهذا الواقع.
استخدام الإعلام كناطق باسم السياسة
أنشأت كافة الأحزاب السياسية والميليشيات تقريباً باقتها الإعلامية الخاصة، استجابةً لضرورات التواصل والاتصال. فكانت أول محطتين إعلاميتين: إذاعة "صوت لبنان"، وهي الإذاعة الخاصة بحزب "الكتائب اللبنانية" التي تأسّست عام 1958، ومحطة تلفزيون "المؤسسة اللبنانية للإرسال" التي أسّستها "القوات اللبنانية" عام 1985. ومع أنّ عدّة وسائل إعلامية مكتوبة أُنشئت بموجب الإطار القانوني لقانون المطبوعات لسنة 1962، إلّا أنّ كافة المحطات الإذاعية والتلفزيونية التجارية تأسّست خارج أي إطار قانوني، مما أدى في نهاية الأمر إلى كسر الاحتكار المنسوب إلى المحطّتين الرسميتين: "إذاعة لبنان" و"تلفزيون لبنان". روّجت كل وسيلة إعلامية للآراء الطائفية الخاصة بفئة عسكرية/ سياسية/ دينية محلية. وليس هذا فحسب، بل غالباً ما كانت تُشكّل ناطقاً باسم أصحاب مصلحة خارجيّين عرب دعموا الأفرقاء اللبنانيين مالياً. لكنّ هذا الدعم الخارجي ما لبث أن تراجع بشكل ملحوظ بعد الإطاحة بالعديد من الدكتاتوريين العرب، خاصةً صدّام حسين في العراق عام 2003 ومعمّر القذافي في ليبيا عام 2011. ومع أنّ التمويل استمرّ من إيران، والسعودية، وقطر، وبقيّة دول الخليج، إلّا أنه تراجع بدوره في السنوات الخمس الأخيرة.
لما كانت دولة سوريا المجاورة قد سيطرت على السياسة اللبنانية لحوالى ثلاثين عاماً (1975- 2005)، فقد تلاعبت بالإعلام شأنه شأن "الأدوات" الأخرى المتوفّرة لديها (الزعماء السياسيين، المؤسسات العامة، وأجهزة الأمن...). في هذا الإطار، أقرّ مجلس النواب الذي شكّلت فيه الأحزاب الموالية لسوريا الأغلبية الساحقة قانون الإعلام المرئي والمسموع رقم 382 لسنة 1994. فأصبح لبنان بذلك أول دولة عربية تسمح للقنوات الإذاعية والتلفزيونية الخاصة بالعمل ضمن حدودها. لكنّ بعض هذه المحطات الإعلامية - التي كانت تمارس عملها قبل صدور القانون - لم تتمكّن من نَيْل التراخيص اللازمة بسبب الرسوم الباهظة المرتبطة بهذا الأمر. فاعتُبرت مخالفةً للقانون وتمّ إغلاقها في ما بعد. وفي الواقع، تمّ منح التراخيص إلى تكتّلات الشركات المرتبطة بالسياسيين البارزين الذين أعلنوا، سراً وعلانية، عن ولائهم للنظام السوري. وباتت الرقابة الذاتية السمة المهيمنة على أداء وسائل الإعلام، خاصةً في ما يتعلّق بالمواضيع التي تتناول الوجود السوري. فسُجّلت عدة هجمات على حرية التعبير، ولعلّ أبرزها كان إغلاق محطة "تلفزيون المر" (إم تي في) في 4 أيلول/سبتمبر 2002.
استقطاب المشهد الإعلامي
بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري (14 شباط/فبراير 2005) واندلاع ثورة الأرز (آذار/مارس 2005) والانسحاب السوري من الأراضي اللبنانية (نيسان/ أبريل 2005)، انقسم لبنان بين معسكرين متعارضين هما: تحالف 8 آذار الموالي لسوريا، وتحالف 14 آذار المدعوم من الولايات المتحدة والسعودية.
أحيط تحالف 14 آذار بدعمٍ من جريدة "النهار"، والجريدة الناطقة باللغة الفرنسية "لوريان لوجور"، وصحيفة وتلفزيون "المستقبل" (من أجهزة "تيار المستقبل") وموقع "ناو ليبانون" الإلكتروني. أما تحالف 8 آذار، فقد حصل على دعم من جريدتَي "السفير" و"الأخبار"، ومن الإعلام المرئي والمسموع كتلفزيون "المنار" التابع لـ "حزب الله"، ومحطة الـ "إن بي إن" التابعة لرئيس مجلس النواب نبيه بري، والـ "أو تي في" المقرّبة بشكل وثيق من "التيار الوطني الحرّ"، وبدرجة معيّنة في بداية الأمر من تلفزيون "الجديد" الذي ادّعى أنّ له توجّهات يسارية على رغم كونه مملوكاً من رجل الأعمال تحسين خياط.
في هذا السياق، بلغت الهجمات ضد وسائل الإعلام ذروتها مع اغتيال الصحافي في جريدة "النهار" سمير قصير في 2 حزيران/يونيو 2005، والمدير التنفيذي لجريدة "النهار" والنائب جبران تويني في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2005، فضلاً عن محاولة اغتيال مذيعة الأخبار في "المؤسسة اللبنانية للإرسال" آنذاك مي شدياق، في 25 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه.
ازدادت وسائل الإعلام استقطاباً وانقساماً، بعد أن باتت أشبه بأسلحة وساحات قتال في الخطوط الأمامية. فبات التهجّم على إحداها أشبه بتهجّم على "رمز" طائفة دينية و/أو حزب سياسي، مع إمكانية أن يتسبّب ذلك باندلاع أزمة على مستوى الوطن. في 7 أيار/مايو 2008، شهدت التوترات بين أنصار السنّة والشيعة تصعيداً. فأقدم مقاتلون من "حزب الله" وحركة "أمل" على اقتحام استديوهات "تلفزيون المستقبل" المملوك من عائلة الحريري، وإيقاف بثّه على الهواء. ومنذ ذلك الحين، تستمر حوادث متكررة مماثلة في إيقاع وسائل الإعلام في مرمى النيران.
التحدّيات والتغييرات بعد ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر
أسفرت التطورات الأخيرة، خاصةً منذ ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر، عن ظهور فرص وتحدّيات جديدة بالنسبة إلى الإعلام المستقلّ، خاصةً على صعيد البحث عن آليات لجمع التمويل، والنمو، ووضع نماذج عمل مستدامة ومهنية، وحشد الجهود بطريقة حيوية وتحويلية. خلال التظاهرات الشعبية، تكرّرت أعمال العنف ضد الناشطين والطلاب والصحافيين. فضلاً عن ذلك، برّرت التحدّيات الاقتصادية الجسيمة الحاجة إلى إجراء أبحاث جريئة حول أسباب الأزمات وسبل معالجتها. فأدى هذا الأمر إلى إجراء نقاش مثير للجدل والاستقطاب حول مجموعة متنوّعة من المواضيع والمحادثات، مما غذّى الحاجة إلى إيجاد إعلام بديل لا يعتمد بالضرورة الاعتبارات والقيود نفسها المنطبقة على وسائل الإعلام التقليدي، ومنها المحطات التلفزيونية والصحف.
إلى جانب ذلك، أضاف انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020 طبقةً جديدةً إلى هذه الطبقات. فحفّز الانفجار، أكان ذلك من حيث تبعاته السياسية الأوسع أو الضرر المباشر الذي أحدثه، على إحداث تغيير في الخطاب القائم بشأن كيفية تعامل أقسام كبيرة من وسائل الإعلام مع الواقع الاجتماعي والسياسي للبلاد. وهو أمر ينطبق على كلّ من التحدّيات التي تواجه السكان المحليين، والعداء الموجّه ضد السلطات والطبقة الطائفية الحاكمة. في هذا الإطار، عند التمعّن عن كثب في المشهد الإعلامي، نلاحظ أنّ وسائل إعلامية بديلة، مثل "ميغافون نيوز" و"درج" فضلاً عن برامج أخرى اعتمدت زاويةً متجدّدةً على وسائل إعلامية تقليدية مثل قناة "الجديد"، قد أطلقت اتّجاهاً جديداً من التقارير الاستقصائية التي حاولت أن تُثبت سبب الانفجار أو الانهيار الاقتصادي، أو خلفيتهما. بعبارة أخرى، افترضت هذه الاستجابة اعتماد طُرق جديدة ومبتكرة يمكن من خلالها للعاملين في المجال الإعلامي أداء عملهم بطريقة تهدف إلى إغناء النقاش الوطني العام.
المصادر
Democracy Index 2016 - The Economist Intelligence Unit
البيانات الوصفية
التوافقية هي شكل من أشكال الديمقراطية التي تسعى إلى تنظيم واستقرار مجتمع يتكون من جماعات مختلفة.